
في عالم يشهد طلباً متزايداً على الطاقة الكهربائية وتعقيداً غير مسبوق في شبكات نقلها وتوزيعها، لم يعد الأمر مقصوراً على توصيل الأسلاك وتشغيل المعدات. أصبح “دراسة النظام الكهربائي” (Power System Study) عملية هندسية حاسمة وأساسية لأي مشروع، جديدة أو توسعة. تخيل أنك تبني ناطحة سحاب دون حساب الأحمال أو قوى الرياح؛ المصير سيكون كارثياً. نفس المنطق ينطبق على الشبكات الكهربائية.
دراسة النظام الكهربائي هي عملية تحليلية شاملة تستخدم نماذج محاكاة حاسوبية متقدمة لمحاكاة سلوك الشبكة الكهربائية تحت ظروف تشغيلية مختلفة، سواءً كانت طبيعية أو طارئة. الهدف النهائي هو تأمين السلامة البشرية، ضمان استمرارية التيار الكهربائي، وحماية الاستثمارات في المعدات الباهظة الثمن.
الدراسات الرئيسية المكونة لدراسة النظام الكهربائي الشاملة
لا تعتبر “دراسة النظام الكهربائي” دراسةً واحدة، بل هي مجموعة متكاملة من الدراسات المتخصصة التي تبنى على بعضها البعض. فيما يلي أهمها:
1. دراسة تدفق الأحمال (Load Flow Study)
- الغاية: فهم كيفية سريان الطاقة (الكيلوواط) والطاقة غير الفعالة (الكيلو فار) في الشبكة خلال الظروف التشغيلية العادية. هي بمثابة “تخطيط للحركة المرورية” للكهرباء.
- المخرجات:
- تحديد فولتية كل نقطة (Bus Voltage) والتأكد من بقائها ضمن الحدود المسموحة.
- حساب التيارات في الكابلات والخطوط والمحولات.
- تحديد أحمال المحولات والمولدات.
- كشف أي اختناقات أو عناصر متهالكة في النظام.
- الفائدة: تمكن المهندسين من تحسين أداء الشبكة، وتقليل الفقد في الطاقة، والتخطيط للتوسعات المستقبلية.
2. دراسة الدائرة القصيرة (Short-Circuit Study)
- الغاية: حساب أعلى تيار عطل (Short-Circuit Current) يمكن أن يحدث في مختلف نقاط الشبكة. هذا التيار الهائل يولد قوى كهرومغناطيسية وحرارية هائلة.
- المخرجات:
- تحديد القدرة القطعية (Interrupting Rating) للقواطع الكهربائية (Circuit Breakers). يجب أن تكون القواطع قادرة على تحمل وقطع هذا التيار دون أن تتعرض للانفجار.
- تحديد القدرة التحملية (Withstand Rating) للمفاتيح، والقضبان (Busbars)، وغيرها من المعدات. يجب أن تتحمل المعدات القوى الميكانيكية والحرارة الناتجة عن العطل للحظات حتى تزيله القواطع.
- الفائدة: الحماية من الكوارث؛ حيث تضمن أن معدات الحماية قوية بما يكفي لمواجهة أسوأ سيناريو عطل.
3. دراسة تناسق الحماية (Protection Coordination Study)
- غاية: تنسيق عمل أجهزة الحماية (قواطع، مصهرات، مرحلات) بحيث يعزل الجهاز الأقرب إلى مكان العطل فقط، مع الحفاظ على استمرارية التغذية لأكبر جزء ممكن من الشبكة.
- التشبيه: نظام إنذار الحريق في مبنى كبير؛ إذا اشتعلت سلة مهملات في مكتب، لا داعي لإخلاء المبنى بأكمله. يتم التعامل مع الحريق في مصدره.
- المخرجات:
- منحنيات زمن-تيار (Time-Current Curves – TCC) مضبوطة بدقة لكل مرحلة حماية.
- ضمان “انتقائية” (Selectivity) أو “تتابعية” (Discrimination) عمل أجهزة الحماية.
- الفائدة: تقليل مساحة العطل، ومنع الفقد الكلي للطاقة، وزيادة موثوقية النظام.
4. دراسة استقارية النظام (Transient Stability Study)
- الغاية: تحليل قدرة النظام على الحفاظ على التزامن (Synchronism) بين المولدات بعد حدوث اضطراب كبير ومفاجئ، مثل عطل دائرة قصيرة شديد أو فقدان خط نقل.
- المبدأ: عند حدوث عطل، تتباطأ بعض المولدات بينما تتسارع أخرى. تدرس هذه التحليلات ما إذا كانت هذه المولدات ستعود إلى السرعة المتزامنة بعد إزالة العطل أم أنها ستفقد التزامن مما يؤدي إلى انهيار كامل للنظام (Blackout).
- الفائدة: منع انهيارات الشبكة واسعة النطاق وضمان استقرارها على المدى الطويل.
5. دراسة التناغم التوافقي (Harmonic Analysis)
- الغاية: تحليل تشوه موجة التيار والفولتية الناتج عن الأحمال غير الخطية مثل (مغيرات السرعة VFDs، أجهزة الكمبيوتر، مصابيح LED).
- المشكلة: التوافقيات (Harmonics) تسبب:
- ارتفاع درجة حرارة المحولات والكابلات.
- تعطل المعدات الإلكترونية الحساسة.
- تفاعل خاطئ لأجهزة الحماية.
- انخفاض معامل القدرة (Power Factor).
- الفائدة: تحديد مستوى التوافقيات وتصميم المرشحات المناسبة (Harmonic Filters) لتقليلها إلى الحدود المسموحة بها في المعايير (مثل معيار IEEE 519).
الخلاصة: لماذا كل هذا الجهد؟
إجراء دراسة شاملة للنظام الكهربائي ليس رفاهية، بل هو استثمار إلزامي في:
- السلامة: حماية الأرواح من مخاطر الحرائق والصعق الكهربائي الناتجة عن الأعطال.
- الموثوقية: منع انقطاعات التيار غير المخطط لها وضمان استمرارية العمليات.
- الكفاءة الاقتصادية: تجنب تلف المعدات باهظة الثمن، وتقليل خسائر الطاقة، وتأجيل استثمارات التوسعة غير الضرورية.
- الامتثال: تلبية متطلبات لوائح السلامة والكهرباء المحلية والدولية.
بدون هذه الدراسات، يتم تصميم وتشغيل النظام الكهربائي بناءً على التخمين، مما يجعله عرضة للأعطال المتتالية والانهيارات الكبيرة، التي تكون تكلفة إصلاحها أكبر بكثير من تكلفة الدراسة في المقام الأول.





